كيف بدأ رسول الله الدعوة؟
كيف بدأ رسول الله الدعوة؟ وبمن بدأ؟ ومن هم الذين اختارهم الرسول ليبدأ بهم؟
لم يكن اختيار النبي عشوائيًّا في اختيار من يدعوه، بل كان هناك منهجٌ واضحٌ يسير عليه النبي ، وقبل أن نعرف منهج رسول الله لا بد من سؤال. هل يؤمن الإنسان بقلبه أولاً أم بعقله؟ هل يحبك أولاً ثم تقدم له الحجة بعد ذلك أم تقدم له الحجة أولاً؟
الحب والحجة في غاية الأهمية لكن من الصعب جدًّا على الإنسان أن يقبل فكرة ما حتى ولو كانت هذه الفكرة صحيحة ومقنعة من إنسان يبغضه ولا يحبه، وقد يدخل في جدل عقيم وحوار طويل قد لا يأتي بخير، بينما على الجانب الآخر يتقبل كثيرًا من الأفكار ممن يحب وقد تكون هذه الأفكار غريبة.
إن الفكرة التي جاء بها النبي فكرة صحيحة ومقنعة، وإذا فكر فيها عقل سليم لا بد أن يقبلها، ورغم ذلك فهذه الفكرة غريبة على أهل مكة، فقد مر من عُمْر الأرض أكثر من ستمائة عام، لم يخرج فيه نبي، جاء رسول الله على فترة من الرسل.
وقد ملك الاستغراب عقول الناس من فكرة التوحيد على بساطتها ووضوحها، أو أن يكون هناك رسول من البشر، يقول : "بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ".
كانت دعوة النبي لقريش وللناس كلهم وللعالم أجمع، ولكن في هذا الوقت بمن يبدأ ؟ لا بد أن يبدأ بمن يقبل الفكرة دون تردد؛ ليكوّن قاعدة عريضة يستطيع من خلالها نشر هذا الدين بين أوساط المجتمع كله، وكان أكثر الناس حبًّا له أكثرهم قبولاً للفكرة.
وهذا منهج لأهل الأرض جميعًا، ودرسًا نتعلمه من النبي ونحن نسير في الدعوة إلى الله.
دعوته للسيدة خديجة رضي الله عنها
بحث النبي عن أكثر الناس حبًّا له وبدأ بدعوتهم، ذهب النبي أولاً إلى زوجته الصالحة السيدة خديجة فمن المؤكد أنها أول من آمن على ظهر الأرض، فهي التي كانت تتابع مع النبي أحداث الوحي، فهي التي ذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وعرفت أن هذا جبريل الناموس الذي ينزل على الأنبياء إلى أن نزل قوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدَّثر: 2].
فآمنت السيدة خديجة -رضي الله عنها- ومن الممكن أن نقول إنها آمنت قبل التصريح بالرسالة حيث قالت: كَلاَّ وَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا. والسيدة خديجة أحبت النبي حبًّا لا يوصف، فكان هذا الحب هو طريق تصديق العقل والحب وحده لا يكفي، فقالت له: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَحْمِلُّ الْكَلَّ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
وهذه الصفات لا يمكن أن تجتمع في كذاب أو مُدَّعٍ لهذا الأمر، وهي التي ذهبت به إلى ورقة ويؤكد ورقة بعد ذلك على أنه نبي، وينزل الملك ويخبره أنه رسول، والرسول يخبرها بذلك، وهي تعلم صدقه وأنه لا يكذب، وهذا الكلام ليس من كلام البشر، فلا بد أن هناك قوة فوق قوة البشر، كل هذا الكلام دار بخلد السيدة خديجة رضي الله عنها، وما أعتقد أن هذا الكلام كان سيدور بهذه السلاسة وهذه البساطة لو كانت بينها والنبي مشاحنات ومخاصمات، فالحب والحجة في غاية الأهمية إلا أن الحب يأتي أولاً ثم تليه الحجة.
دعوته لسيدنا أبي بكر
وبعد السيدة خديجة ذهب النبي إلى أحب الرجال إلى قلبه، فإذا كانت السيدة خديجة هي أحب النساء إلى قلبه، فسيدنا أبو بكر هو أحب الرجال إلى قلبه ، ولما سئل النبي عن أحب الرجال إلى قلبه قال: "أبو بكر". وما تردد أبو بكر في قبول هذا الدين لحظة واحدة، يقول : "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلاَمِ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ، مَا عَتَّمَ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ ومَا تَرَدَّدَ فِيهِ". لم يفعل أحد من البشر مثل ما فعل هو والسيدة خديجة أجمعين.
إن سرعة إيمان أبي بكر تحتاج إلى دراسة، فمما دفعه إلى ذلك أنه كان أقرب الناس لأخلاق النبي ، وكثيرًا ما كان يختار من الآراء ما يختاره الرسول حتى في غياب أحدهم عن الآخر.
وكانت أخلاق سيدنا أبي بكر كأخلاق الأنبياء، ولم يمشِ على الأرض خير من أبي بكر إلا الأنبياء.
وكان بين سيدنا أبي بكر والنبي توافق عجيب في أمور الأخلاق، أشهرها الصدق فالرسول هو الصادق الأمين، وأبو بكر هو الصديق ، التواضع والكرم والعفة والبعد عن أماكن الفساد والمروءة وخدمة الناس، كل هذه عوامل أدت إلى سرعة إيمان الصديق .
دعوته لسيدنا زيد بن حارثة
بعد إسلام السيدة خديجة وإسلام أبي بكر تحدث النبي إلى مولاه سيدنا زيد بن حارثة .
لقد أحب سيدنا زيد بن حارثة النبي حبًّا كبيرًا، وكان بينه وبين النبي حبًّا كبيرًا لدرجة أنه عرف بين الصحابة بأنه زيد بن محمد.
وقصة هذا الأمر هي أنه أصابه سباء في الجاهلية؛ لأن أمه خرجت به تزور قومها بني معن، فأغارت عليهم خيل بني القين بن جسر، فأخذوا زيدًا، فقدموا به سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد. وقيل: اشتراه من سوق حباشة، فوهبته خديجة للنبي بمكة قبل النبوة وهو ابن ثماني سنين.
وقيل: بل رآه رسول الله بالبطحاء بمكة ينادى عليه ليباع، فأتى خديجة فذكره لها، فاشتراه من مالها، فوهبته لرسول الله فأعتقه وتبناه.
ثم إن ناسًا من كلب حجوا فرأوا زيدًا، فعرفهم وعرفوه، فانطلق الكلبيون فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه، وعند من هو، فخرج حارثة وأخوه كعب ابنا شراحيل لفدائه، فقدما مكة، فدخلا على النبي : فقالا: يابن عبد المطلب، يابن هاشم، يابن سيد قومه، جئناك في ابننا عندك فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه. فقال: مَنْ هُوَ؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله : "فَهَلاَّ غَيْرَ ذَلِكَ". قالوا: ما هو؟ قال: "ادْعُوهُ وَخَيِّرُوهُ، فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِنِ اخْتَارَنِي فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنِ اخْتَارَنِي أَحَدًا".
قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت. فدعاه رسول الله فقال: "هَلْ تَعِرْفُ هَؤُلاَءِ؟" قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي. قال: "أَنَا مَنْ قَدْ عَرَفْتَ، وَرَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ، فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا". قال: ما أريدهما، وما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني مكان الأب والعم. فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وأهل بيتك؟! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئًا، ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا. فلما رأى رسول الله ذلك أخرجه إلى الحجر، فقال: "يَا مَنْ حَضَرَ، اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي، يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ". فلما رأى ذلك أبوه وعمه، طابت نفوسهما وانصرفا.
ولما نزل الوحي كان سيدنا زيد بن حارثة يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، وحدثه النبي عن الإسلام، وكيف سيكون رد فعل من أحب النبي كل هذا الحب.
وما كان إيمان سيدنا زيد بن حارثة عن حب فقط فمن المؤكد أنه أعمل عقله، فترك الدين إلى دين آخر ليس أمرًا سهلاً.
ولو فكرنا مع سيدنا زيد بن حارثة لوجدنا أنه من خلال معاشرة سيدنا زيد للرسول ما جرب عليه كذبًا، أيعقل أن يترك الكذب على الناس ليكذب على الله.
هو يرى محمدًا في عون الناس جميعًا، وبدون مقابل، هل سيطلب لنفسه مصلحة ذاتية وبعد أربعين سنة مضت من عمره.
لقد رأيت هذا الرجل العظيم العفيف كان بعيدًا عن كل الموبقات والفواحش والمعاصي في فترة شبابه كلها، فهل هذا الرجل يلعب بدين الناس وبعقيدتهم؟
ولو كان هذا الرجل يريد السيادة والملك في مكة أكان يأتي بدين جديد أم يسلك أقرب الطرق وصولاً إلى ذلك، والمحببة إلى نفوس القوم وهو طريق اللات والعزى.
من المؤكد أن كل هذه الأفكار وغير هذه الأفكار جالت بذهن سيدنا زيد بن حارثة. ولا بد أن كل الإجابات كانت تفضي إلى نتيجة واحدة هي أن هذا الرجل صادق فيما يقول.
آمن سيدنا زيد بن حارثة وإن كان قد آمن بقلبه أولاً لكنه آمن بعقله أيضًا.
إسلام علي بن أبي طالب
إن كنا قد وقفنا مع إسلام السيدة خديجة رضي الله عنها، وإسلام سيدنا أبي بكر ، وإسلام سيدنا زيد بن حارثة . فلا بد من وقفات مع إسلام سيدنا علي بن أبي طالب ، هذا الطفل الذي آمن، وما تجاوز العشر سنوات، إن إسلام سيدنا عليّ في هذا السن هو شيء في منتهى الغرابة.
ويكمن وجه العجب والغرابة في عمره الذي ما تجاوز العشر سنوات، يستأمنه النبي ويسر إليه بهذا الدين الجديد في مثل هذه المرحلة السرية من الدعوة، وغريب أيضًا أن يفهم طفل في مثل هذا السن هذه القضية الكبيرة التي خفيت على كثير ممن يسمونهم حكماء في مكة.
وقفات مع إسلام علي بن أبي طالب
وهذا الأمر يحتاج منا إلى وقفة:
أولاً: كان سيدنا علي بن أبي طالب بمنزلة ابن النبي كزيد بن حارثة، فكان يعيش مع النبي في بيته، والسبب في ذلك هو أن قريشًا أصابتهم أزمةٌ شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال يومًا رسول الله لعمه العباس: يا عم، إن أبا طالب كثير العيال، فانطلق بنا نخفف عن عيال أبي طالب. فانطلقا إليه وأعلماه ما أرادا، فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما. فأخذ رسول الله عليًّا، وأخذ العباس جعفرًا، فلم يزل عليّ عند النبي حتى أرسله الله، فاتبعه.
وقال ابن إسحاق: وكان من نعمة الله عليه.
كان علي بن أبي طالب يعتقد الصواب في كل كلمة يقولها الأب الحنون النبي ، كما يعتقد كل طفل الصواب في كلام أبيه.
ولقد ترسخ في نفس علي بن أبي طالب حب كبير للنبي منذ نعومة أظفاره، فكما قلنا: إن منهج النبي في الدعوة يقوم على الحب أولاً ثم الحجة.
ثانيًا: أن النبي لاحظ نبوغًا مبكرًا، وعبقرية ظاهرة في علي بن أبي طالب، فاطمأَنَّ النبي إلى أن يخبره بأمر الرسالة مع أن هذا الأمر خطير، ولا يزال سرًّا، ولا يعلم إلى متى سيظل هذا الأمر سرًّا.
وقد يظن البعض أن النبي يخاف أن يخبره بهذا الأمر للظروف التي تحيط بالدعوة، لكن الواقع أن سيدنا عليًّا كان عبقريًّا فذًّا، وبمرور الأيام صدقت فراسة النبي ، وكان سيدنا علي من أكثر الصحابة قدرة على استنباط الأحكام والقضاء في الأمور، بجانب فراسته وعلمه وفقهه .
ثالثًا: في الحقيقة هذه وقفة مع النبي في اختياره لمن يدعوهم، فبدعوة النبي لسيدنا علي، وبإسلامه كان هناك تنوع عجيب لمن دعاهم النبي واختارهم في بادئ الأمر، وكان يوضح لنا أمرًا في غاية الأهمية، وهو أن مجال الدعوة أوسع مما قد نتخيل، فهؤلاء الأربعة الأوائل: فيهم الرجال، وفيهم النساء، فيهم السادة، وفيهم العبيد، فيهم الكبار، وفيهم الصغار، وأن هذه الدعوة لا حدود لها.
أصبح علي بن أبي طالب أول الصبيان إسلامًا، كما أصبح أبو بكر أول الرجال، وزيد أول الموالي، والسيدة خديجة كانت أول النساء، وكان ذلك في أول يوم في الإسلام.
دعوة النبي آل بيته للإسلام
ثم دعا النبي بناته للإسلام فدعا السيدة زينب وكانت في العاشرة من عمرها، والسيدة رقية وكانت في السابعة من عمرها، والسيدة أم كلثوم وكانت في السادسة أو الخامسة من عمرها، وكلهم اعتنقوا الإسلام في هذا السن المبكر، أما السيدة فاطمة فكان عمرها سنة على أرجح الأقوال.
كان هذا هو الوضع في بيت الرسول .